فرضت روسيا نفسها على وسائل الإعلام العالمية طوال الايام العشرة الماضية التي أعقبت حملتها التأديبية ضد جورجيا. وهي الحملة التي بعثت الى الجميع برسالة تذكرهم بأن انهيار الاتحاد السوفييتي لا يعني ان روسيا انتهت. وليس صحيحا ان مفاتيح الكون اصبحت حكرا على الولايات المتحدة الاميركية، كما يتوهم البعض في بلادنا.
مجلة «شؤون الاوسط » الفصلية اللبنانية التقطت الخيط وقدمت في احدث اعدادها )ربيع 2008 ( ملفا حول روسيا والشرق الاوسط ذكرنا بما نسيناه، وبصرنا بما لم نعد نراه على البعد في روسيا الجديدة، إذا جاز التعبير. ذكرنا الملف بأن روسيا الفيدرالية تضم 21 جمهورية و 7 اقاليم و 48 مقاطعة و 10 مناطق حكم ذاتي، اضافة الى مدينتين فيدراليتين هما موسكو وسان بطرسبورج. وهي تمثل المرتبة الاولى في العالم من حيث المساحة التي تبلغ 15 مليونا و 75 الف كيلومتر مربع. كما انها تحتل المرتبة السابعة من حيث عدد السكان )حوالي 142.4 مليون نسمة منهم 11 مليونا في موسكو(.
هي الآن قوة اقتصادية صاعدة. فالناتج المحلي الاجمالي يزيد بنسبة 6.4 %، ومعدل التضخم في حدود 11 ٪. اما انتاجها من النفط ففي حدود 497 مليون طن سنويا. وخلال عام 2006 ارتفع حجم الاستثمارات الاجنبية المتراكمة مئة مليار دولار، في حين نمت سوق الاوراق المالية الروسية بنسبة 88 ٪ وهذا رقم قياسي بالنسبة للعالم.من المفارقات ان تلك الدولة الكبيرة اصبحت تتخوف من احتمال انقراض سكانها. ذلك انهم يتناقصون كل عام بمعدل 750 الف شخص. وحسب احصاءات الامم المتحدة فإنه إذا استمر ذلك التناقص فان العنصر الروسي سيختفي بعد قرن واحد، وهذه المشكلة نابعة من اقبال الروس على الهجرة الى الخارج، وعزوف الباقين منهم عن الانجاب. يضاف الى ذلك المشاكل الصحية والنفسية الكبرى التي يعانون منها. ففيها اعلى نسبة اصابة بالسل في اوروبا كما ان نسبة المصابين الروس بالايدز تعتبر الاعلى خارج افريقيا. وكذلك نسبة المدمنين على المواد المخدرة. فواحد من كل ثلاثة روس يتناولون الكحول الزائد او الحبوب المهدئة، او احدى المواد المخدرة كل يوم .
وبحسب منظمة الصحة العالمية فان واحدا وعشرين روسيا ينتحرون كل يوم. المعضلة الاخرى التي تواجهها روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، هي عدم استقرار كيانها كدولة حديثة. فبالاضافة الى مشاكلها الحدودية البحرية مع اليابان والصين واوكرانيا، هناك الصراع الشيشاني وتمرد عدد من الهويات الاثنية والدينية في الاطراف. الى جانب ذلك فإنه بعد انهيار النظام السوفييتي ضعفت سلطة الدولة، وبرز في الافق بقوة دور المافيات المالية النافذة، حتى شهدت روسيا اعلى نسبة فساد اداري في العالم.
مع ذلك ورغما عنه تظل روسيا الاوفر حظا في لعب دور مهم في المنظومة الدولية، نظرا لامكاناتها البشرية والمادية الكبيرة )ينتج الروس 90 الف كتاب في العام، وهو عدد يفوق نظيره الاميركي بالنسبة لعدد السكان(. في الملف حديث مهم عن العرب يحثهم على الانتباه الى ان لهم مصلحة حقيقية في صعود الدور الروسي مقابل نظيره الاميركي. ويدعوهم الى التخلص من الفهم السطحي للدور الروسي في المنظومة الدولية وادراك حقيقة انها ليست العضو في مجلس الامن الذي يمكن شراء «الفيتو » الذي يخصها في الوقت الذي يريده الآخرون. ولكي تصح العلاقات العربية الروسية فإنه يتعين ان تسوى الديون الروسية المتراكمة على الدول العربية، لانها جزء من المصالح الوطنية التي يتعذر التنازل عنها.لا اعرف ان كان هذا الكلام يمكن ان يصل الى اسماع العواصم العربية التي تعلقت بواشنطن ام لا، لكنني اعرف انه ينبغي ان يقال. ابراء لذمة الباحثين الجادين والغيورين على الاقل.
صحيفة الدستور المصريه الاثنين 17 شعبان 1429 – 18 أغسطس 2008
إعادة اكتشاف روسيا – فهمي هويدي