على الرغم من كل ما يظهر لنا مما يطفو على سطح الحياة ويغوص عميقا في جذورها من سمات الحضارة والمدنية الصارخة والتقدم العلمي والاقتصادي غير المسبوق في التاريخ، إلا أن كثيراً من المفكرين والمثقفين يرون أن العالم يعايش ردة فظيعة على الصعيد الإنساني وانحداراً أخلاقيا للبشرية جمعاء الأمر الذي قد ينبئ في أكثر سيناريوهات الخيال العلمي تفاؤلاً إلى اضمحلال النفوذ البشري على هذا الكوكب وتراجعه إما لصالح الآلة أو لصالح مخلوقات أخرى على سطح الأرض كما افترض ذلك منذ أكثر من أربعين عاماً الفيلم الأمريكي الشهير «كوكب القرود» الذي عرض ما اعتبر في حينه ـ ولا يزال على الأرجح ـ واحداً من أشد السيناريوهات رعبا عما يمكن أن يحدث بعد أن يتم تدمير الحضارة البشرية على يد أبنائها حيث ستنتقل السيادة على كوكب الأرض إلى معشر القرود من فصيلة الغوريلا والتي وبحسب الفيلم سوف تتعامل مع البشر كما يعامل البشر الحيوانات أو كما يتعاملون أحيانا مع بعضهم البعض، وما يعنينا في هذا السياق هو أننا نتوقع ونخشى حدوث ذلك أو شيء ما من ذلك القبيل لا سمح الله.
هناك شبه اجماع على أن البشرية قد حققت في القرن العشرين تقدماً يفوق في نوعيته ومقداره كل ما حققته منذ نزول آدم وحواء إلى سطح الأرض حتى بدايات الثورة الصناعية الأخيرة، وفي الواقع أن العصر الحديث قد افرز إلى جانب ما أفرز من تقدم تقني مخيف أزمات متفاقمة في الأخلاقيات الإنسانية وضعت الناس في فتنة فكرية كبرى جعلت من الحليم يقف أمامها في حيرة شديدة بين أن يزهو ويفخر ويتمتع بما حققته البشرية من قفزات جبارة لصالح رفاهيته وسعادته وبين ما رتبته تلك الطفرة من تبعات جسيمة لم يكن لها أن تقع على أخلاقياته الإنسانية برداً وسلاما بأي حال، حيث حمل هذا العصر للإنسان كثيراً من التعقيدات والتهديدات التي طالت وتطال كل يوم ما تنشده الفطرة الإنسانية من سلام ومحبة وتوق حقيقي للاستقرار كما تنال كل يوم من إنسانيته التي تنتهك أخلاقياتها تباعا باسم العلم والتقدم والحضارة المزعومة، وليس الجدل الدائر حول ما نعايش خطر التهديدات النووية والتلوث البيئي وأسلحة الدمار الشامل والاستنساخ والهندسة الوراثية وزراعة الأعضاء وتأجير الأرحام وغيرها مما أبدعته العلوم الحديثة إلا بعضا من شواهد تلك الأزمات الأخلاقية والفتن الفكرية التي حيرت حلم الحلماء وحكمة الحكماء.
لافت للانتباه والاستغراب انه وفي ظل ما بات يعرف بالحضارة الحديثة وفي خضم ما يعتري العالم من نزوع إلى المادية المطلقة نجد الشرق ومن ضمنه بلادنا يقف مشدوها ومكتوف الأيدي ازاء ما يجري في العالم ويبدو أن هذا الشرق الحالم الذي اتحف الدنيا سابقا بكل هؤلاء الفلاسفة والشعراء والأنبياء والديانات لم يعد قادرا ونحن في بدايات الألفية الثالثة على انتاج فيلسوف واحد من عيار ابن رشد والفارابي وطاغور وبوذا أو حتى هيغل وديكارت وسبينوزا يواجه به ذلك الطغيان المادي الذي يوشك أن يؤدي بكل ما أنتجه الشرق من فلسفات وعقائد ليصبح العالم على أبواب عصر عدمي تنعدم فيه القيم الروحية والأخلاقية التي صاغت في الماضي كل السياسات والممارسات الإنسانية، بعد أن كان عصر عدمي تنعدم فيه القيم الروحية والأخلاقية التي صاغت في الماضي كل السياسات والممارسات الإنسانية، بعد أن كان العالم كله يتعلم من هذا الشرق ويأخذ عنه قيمه وأخلاقياته ليصبح الشرق هو السوق الاستهلاكية ليس لمنتجات الغرب العلمية والصناعية فحسب بل والفلسفية أيضاً وتحديدا للفتات منها.
قد يقول قائل إن الفلسفة أمر غير ذي قيمة ولا ضرورة فنحن بحاجة إلى العمل الجاد لا إلى التنظير والخيال الفلسفي العقيم، والواقع قولاً كهذا هو مكمن الخطر والخطأ، فالنجاح في الحقيقة هو امتزاج أو تزاوج فيما بين الأساس النظري والتطبيق العملي للنظرية فكلما كانت القاعدة النظرية متينة والتطبيق العملي متقنا كلما كان العمل نجاحا والعكس طبعا صحيح، وترينا الشواهد من حولنا أن كل الاخفاقات التي قد يعاني منها الناس والمجتمعات البشرية والدول انما تقع إما بسبب هشاشة الأساس الفلسفي النظري أو خلل في التطبيق ومن هنا أتى تعريف الفلسفة عند الفلاسفة العرب بأنها «كمال العلم من أجل كمال العمل»، وهنا لابد من التأكيد على أهمية التلازم بين ضرورة متأنة وتماسك الجزء النظري ودقة واتقان الجزء العملي فضعف الأساس والهدف النظري يجنح بالتطبيق العملي مهما كان متقنا إلى أن يكون شكلاً من أشكال العبث أما اخفاق التطبيق فسيقود الفكرة أو القيمة المجردة إلى أن تضيع ما بين الشطح الايديولوجي أو مداخل الخرافة.
رغم أنف كل العلوم والتقنيات ومركبات الفضاء المسافرة عبر الأكوان وثورة الاتصالات والانجازات الطبية فإن أزمة البشرية مع العولمة التكنولوجية تتمثل في أنها ـ أي العولمة ـ وفي خضم التنامي المادي المضطرد قد اقدمت على فصل العلم عن الأخلاق التي هي ذروة النتاج الفكري والفلسفي والديني معا لتفرغ المنتج العلمي من مضمونه الأخلاقي وهدفه الحياتي كما تجرد الكائن البشري من مضمونه الروحي والقيمي مختزلة الإنسان في مجرد مخلوق بيولوجي يعيش ليمارس وظائف فسيولوجية محددة تساعده على مجرد العيش وليس على الحياة وذلك بهدف واحد هو أن يعيش ويمتد به العيش ما يكفي ليستهلك ما تنتجه مصانعها ويموت عندما يراد له الموت ليستهلك في موته ما تنتجه هذه العولمة من أسلحة وأمراض.
نعم أيها السادة العولمة تنتج أمراضا ربما من حيث تدري أو غالبا من حيث لا تدري وعلى ما يبدو أن كل تراكم للقوة إنما هو تراكم للعجز في الوقت نفسه، فبعدما استبشرت البشرية خيراً بعد أن اكتشف الكسندر فلمنج البنسلين وبعد ان تفنن العلماء في اختراع صنوف المضادات الحيوية يخصص كل صنف منها ليكافح مرضا أو جرثومية بعينها، وبعد أن بشرتنا وزارة الصحة الأمريكية منذ زهاء أربعين عاما خلت بأن زمن الأوبئة قد ولى بدون رجعة، ها نحن نطالع تقريراً لمنظمة الصحة العالمية يفيد بتزايد مناعة الميكروبات والجراثيم في مواجهة العقاقير المضادة وحتى عدم فعالية تلك العقاقير المظفرة لتظهر لنا بأشكال أكثر حدة وأشد شراسة من تلك التي عهدناها سابقا وهكذا أخذنا نسمع عن ظهور حالات من مرض السل الذي كنا قد نسيناه لفترة من الزمن وبشكل أكثر سطوة وجبروتا مما كان عليه في الماضي، هذا ناهيك عن الأمراض التي لم نكن لنعرفها لولا التقدم العلمي والتكنولوجي وما قدمه لنا من منتجات ظاهرها النعمة وباطنها العذاب مثل مرض جنون البقر الذي ينشأ عن اطعام المواشي لأغذية وأعلاف مخلقة من أصل حيواني لم تعهدها تلك الحيوانات ولم تتقبلها فجن جنونها. وليس بعيداً عن ذلك ما نراه ويستجد علينا من أمراض سرطانية مختلفة تفتك بأعداد غفيرة من البشر سنويا تسببها الملوثات المصنعة من أغذية وأدوية وألبسة ومعطرات ومساحيق تجميل ومشتقات كيميائية ما انتجت الا لتمنح الإنسان جرعة اضافية من السعادة وإذا بها تنشب أنيابها في رقبته، وما كان لها أن تكون بغير هذه العلوم والتقنيات الحديثة التي أصبحت بهذا الشكل وبالا على البشرية جمعاء.
ما فائدة التقدم العلمي اذا كان يطيل في عمر جيل بشري أو جيلين ليقدم له بعد ذلك أمراضا تستوطنه لأجيال؟ وما فائدة أن ييسر لنا السفر والترحال بالطائرة أو بسفن الفضاء ليستخدم بعد ذلك هذه الطائرة والأقمار الصناعية في قصف البشر ويحصد ما تعجز أعتى الطواعين عن حصده من أرواح؟
ولكم مودتي!