أصبحت المعابر الستة سيفا مشهرا في الحصار المقدس الذي فرضته إسرائيل علي قطاع غزة, لترغم جماهيره المليونية علي شرب أنخاب المذلة والهوان كل صباح.
(1) كأن التاريخ يعيد نفسه,فما فعله المهاجرون الانجليز حين وطأت أقدامهم بلاد الهنود الحمر في القرن السابع عشر, وأسسوا هناك مستعمراتهم الأمريكية التي أطلقوا عليها إسرائيل, هو ذاته الذي فعله الإسرائيليون حين أغاروا علي فلسطين وأقاموا مستعمراتهم علي أرضها.
ذلك أنني حين أتابع التقارير الصحفية التي تتحدث هذه الأيام عن التلاعب بالمعابر, واستخدامها في إحكام الحصار وإشاعة التجويع والإظلام وتنفيذ سياسة الموت البطئ علي سكان القطاع, يزداد يقيني بأن الحاضر ليس سوي استنساخ للماضي, فالانجليز اذا كانوا قد ذهبوا كإسرائيليين الي ما اعتبروه أرض الميعاد في أمريكا, وأبادوا الشعوب الهندية هناك مستخدمين أحط الوسائل وأكثرها وحشية ونذالة, فإن الإسرائيليين تقمصوا أرواح الأولين حين انقضوا علي فلسطين, فتأمركوا وتفننوا في استرجاع ذات أساليب الاقتلاع والإبادة وسحق الفلسطينيين.
يسجل كتاب أمريكا والإبادات الجماعية أن جورج واشنطن الأب الأعظم للولايات المتحدة اقترح عقد سلسلة من الاتفاقيات مع الهنود الحمر للاستيلاء علي بعض أراضيهم, مقابل الوعد بعدم المساس بما تبقي لهم من الأرض, وأوصي بأن تكون وعود المفاوضين شخصية وغير ملزمة للحكومة الأمريكية, ليسهل نقضها في أول فرصة, وقد أقر أعضاء الكونجرس بالإجماع خطته, وقال بعضهم إن هذا الأسلوب من الاتفاقيات لن يبقي للهنود في النهاية سوي معازلهم, وأن الذين يرفضونها سيكون مصيرهم إما التهجير القسري أو الإبادة,
وبهذا الأسلوب تم تطهير الشمال الشرقي للولايات المتحدة من الشعوب الهندية, الأمر الذي لم يبق للهنود سوي منطقة غرب المسيسيبي, التي اعترفت الولايات المتحدة بأنها منطقة هندية ذات سيادة في الاتفاقيات التي عقدتها معهم عام1851, لكن اكتشاف الذهب دفع الحكومة الفيدرالية الي فبركة وثيقة مزورة يتخلي الهنود بمقتضاها عن90% من تلك الأراضي, وحين رفضها زعماء الهنود, وأبرزوا المعاهدة الأصلية التي كان موقعوها لايزالون علي قيد الحياة, اتهمتهم الحكومة الفيدرالية بخرق المعاهدة, واعتبرت تصرفهم إعلانا للحرب,
ومن ثم لجأت إلي حصارهم وتجويعهم وتدمير حياتهم, بحيث لم يبق أمام قبائل الهنود سوي الهجرة أو الموت, فهاجر منهم من هاجر, وأبيد الذين أصروا علي الاستمرار في المقاومة.
(2) السيناريو يطبق الآن في غزة, مع الاختلاف في بعض التفاصيل والنتائج, ذلك أن إسرائيل لجأت إلي سياسة الحصار والتجويع لإذلال سكان القطاع وكسر إرادتهم, منذ خرجت منه في شهر سبتمبر2005, بعدما أدركت أن وجودها في داخله يحملها بأعباء تريد أن تتحلل منها, وسيرا علي درب الاتفاقيات التي لا تنفذ رعت الولايات المتحدة اتفاقية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل لتنظيم استخدام المعابر لمدة سنة, وهو ما تم في شهر نوفمبر من العام ذاته(2005), هذه المعابر ستة هي: معبر رفح, وهو الوحيد الذي يصل غزة بالعالم الخارجي ــ
في حين أن المعابر الخمسة الأخري تمر بإسرائيل, وهو مخصص لحركة الأفراد خارج القطاع ـ معبر المنطار( كارني) الذي يقع شرق مدينة غزة, علي خط التماس بين القطاع وإسرائيل, وهو مخصص للحركة التجارية من وإلي القطاع, وكذلك لتصدير الخضراوات الي الضفة الغربية ـ معبر بيت حانون( ايريز) شمال القطاع وهو مخصص لعبور العمال والتجار ورجال الأعمال والشخصيات المهمة ـ معبر صوفا في الجنوب الشرقي من خان يونس,ويستخدم لدخول العمال ومواد البناء من إسرائيل الي قطاع غزة ـ معبر كرم أبوسالم( كيرم شالوم) في جنوب القطاع, وهو مخصص لاستيراد البضائع من مصر عبر إسرائيل, وقد اعتمده الاحتلال لاستيراد محدود للبضائع ذات الطابع الإنساني ـ معبر ناحال عوز, وهو مهجور ومغلق, وتم تحويله الي موقع عسكري, وكان مخصصا لدخول العمال والبضائع, التركيز الأساسي في الاتفاقية كان علي معبر رفح باعتباره الأهم, وبمقتضاها أصبح المعبر تحت إدارة مصرية ــ فلسطينية, وإشراف ممثلي الاتحاد الأوروبي, ولم يكن لإسرائيل وجود هناك إلا من خلال أجهزة التصوير التي تتولي مراقبة العابرين.
بالتوازي مع ذلك, عقد اتفاق آخر بين الجانبين المصري والفلسطيني لتسهيل مرور المواطنين الفلسطينيين, نص علي فتح معبر رفح طوال اليوم, وعلي إعفاء الفلسطينيين الذين هم أصغر من18 سنة وأكبر من40 عاما من تأشيرة الدخول الي مصر.
(3) ما الذي حدث بعد ذلك؟ قامت إسرائيل بخرق جميع بنود اتفاقية المعابر دون استثناء, حيث ظل وصول الفلسطينيين الذين يسكنون في القطاع الي الضفة الغربية والعالم الخارجي محدودا للغاية, كما أن هناك تضييقا علي عملية تدفق السلع التجارية, وارتفاعا في نسبة القيود المفروضة علي التنقل داخل الضفة, ولم يطرأ أي تطور اقتصادي سلمي مما كان مؤملا في الاتفاقية, وانما تدهور الوضع الإنساني وارتفعت نسبة العنف, نتيجة للإغلاق المتزايد لمعابر القطاع.
هذا الكلام ليس من عندي, وانما هو نص أورده في30-11-2006 تقرير لمكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية, عن تقويم ما جري في القطاع خلال السنة الأولي من تطبيق اتفاقية المعابر( من15-11-2005 إلي شهر11 سنة2006), إنه التطبيق النموذجي لأسلوب اتفاقيات التسكين والتخدير التي لا تنفذ, وإنما يكون التوقيع فيها سبيلا للايقاع بالضحية وافتراسها.
في يونيو2007 حين سيطرت حركة حماس علي قطاع غزة, تذرعت إسرائيل بما جري لإغلاق المعابر علي الفور(15-6-2007) محكمة بذلك الحصار المفروض أصلا علي القطاع, وبعد شهرين ذهبت إسرائيل الي أبعد في محاولة خنق القطاع, فأعلنته كيانا معاديا, ورتبت علي ذلك مجموعة من القيود الإضافية, وكان ذلك التصعيد مقدمة لقرار وزير الدفاع الإسرائيلي في يناير2008 بالإغلاق الكامل لكل المعابر, وقطع امدادات الوقود في القطاع, إضافة الي جميع احتياجات الغذاء والدواء.
في تقرير أصدره في فبراير الماضي مركز الزيتونة للدراسات ببيروت, رصد دقيق للتلاعب الإسرائيلي باتفاقية المعابر منذ توقيعها في عام2005, فمعبر رفح الذي يتصل من خلاله الفلسطينيون بالعالم الخارجي ظل مغلقا طوال عام2007 تقريبا, فمن أصل365 يوما هي أيام السنة قامت إسرائيل بإغلاقه طوال308 أيام, ومعبر المنطار الذي التزمت إسرائيل بالسماح بمرور150 شاحنة بضائع منه يوميا للاستيراد والتصدير, لم تسمح بعبور أكثر من12 شاحنة فقط, في حين ظل مغلقا بصورة كلية وجزئية طوال254 يوما في العام التالي لتوقيع الاتفاقية, بل ورفعت تكلفة النقل فيما بين المعبر وميناء أشدود(40 كيلومترا) الي عشرة أضعافها, إذ وصلت الي7100 دولار, في حين أن وصول أي شحنة من أشدود الي شنغهاي في الصين أو لوس أنجلوس( كلتاهما تبعدعن الميناء الإسرائيلي بمسافة بين سبعة و9 آلاف ميل بحري) لا يتكلف أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف دولار, وما حدث مع معبر المنطار تكرر في المعابر الأخري, حيث ظل محور المساعي الإسرائيلية هو التفنن في جعل حياة الفلسطينيين في القطاع جحيما لا يطاق.
(4) الفرق الجوهري بين الهنود الحمر والفلسطينيين, أن الأولين تقهقروا واستسلموا لمصيرهم, في حين أن الفلسطينيين ثبتوا ولم يتوقفوا عن المقاومة, لقد تذرعت إسرائيل في استمرار عدوانها بالصواريخ الفلسطينية وبخطف الجندي جلعاد شاليت, ولكن الصواريخ لم تكن سوي رد علي جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومن أشهرها الاجتياحات والتصفيات التي لم تتوقف, وفي مقابل الجندي المخطوف, هناك11 ألف أسير فلسطيني مخطوفون في السجون الإسرائيلية منذ سنوات.
أحد أوجه الشبه بين تجربتي الهنود الحمر والفلسطينيين, أن ما جري للاثنين تم في ظل الخلل في موازين القوة, ثم إن ما جري للهنود الحمر تم بعيدا عن الأعين, أما الذي يحدث للفلسطينيين فإنه يتم أمام الأعين, وكما خذل العالم القديم الهنود الحمر عن جهل أو صمت, فإن عالمنا المعاصر خذل الفلسطينيين إما عن عمد أو تواطؤ أو خوف.
نقلته عن فهمي هويدي